فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{الذين ءاتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ} قبل القرآن على أن الضمير للقول مرادًا به القرآن أو للقرآن المفهوم منه وأيًا ما كان فالمراد من قبل إيتائه {هُمْ} لا هؤلاء الذين ذكرت أحوالهم {بِهِ} أي بالقرآن {يُؤْمِنُونَ} وقيل: الضميران للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد بالموصول على ما روي عن ابن عباس مؤمنو أهل الكتاب مطلقًا، وقيل: هم أبو رفاعة في عشرة من اليهود، آمنوا فأوذوا، وأخرج ابن مردويه بسند جيد وجماعة عن رغاعة القرظي ما يؤيده وقيل: أربعون من أهل الإنجيل كانوا مؤمنين بالرسول صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه اثنان وثلاثون من الحبشة أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب وثمانية قدموا من الشام بحيرًا وأبرهة وأشرف وعامروا يمن وادريس ونافع وتميم، وقيل: ابن سلام وتميم الداري والجارود العبدي وسلمان الفارسي ونسب إلى قتادة واستظهر أبو حيان الإطلاق وأن ما ذكر من باب التمثيل لمن آمن من أهل الكتاب.
{وَإِذَا يتلى} أي القرآن {عَلَيْهِمْ قَالُواْ ءامَنَّا بِهِ} أي بأنه كلام الله تعالى: {إِنَّهُ الحق مِن رَّبّنَا} أي الحق الذي كنا نعرف حقيته، وهو استئناف لبيان ما أوجب إيمانهم به، وجوز أن تكون الجملة مفسرة لما قبلها وقوله تعالى: {إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ} أي من قبل نزوله {مُسْلِمِينَ} بيان لكون إيمانهم به أمرًا متقادم العهد لما شاهدوا ذكره في الكتب المتقدمة وأنهم على دين الإسلام قبل نزول القرآن ويكفي في كونهم على دين الإسلام قبل نزوله إيمانهم به إجمالًا.
وفي الكشاف والبحر أن الإسلام صفة كل موحد مصدق بالوحي والظاهر عليه أن الإسلام ليس من خصوصيات هذه الأمة من بين الأمم.
وذهب السيوطي عليه الرحمة إلى كونه من الخصوصيات وألف في ذلك كراسة وقال في ذيلها: لما فرغت من تأليف هذه الكراسة واضطجعت على الفراش للنوم ورد على قوله تعالى: {الذين ءاتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ} [القصص: 52] الآية فكأنما ألقى على جبل لما أن ظاهرها الدلالة للقول بعدم الخصوصية وقد أفكرت فيها ساعة ولم يتجه له فيها شيء فلجأت إلى الله تعالى ورجوت أن يفتح بالجواب عنها فلما استيقظت وقت السحر إذا بالجواب قد فتح فظهر عنها ثلاثة أجوبة: الأول أن مسلمين اسم فاعل مراد به الاستقبال كما هو حقيقة فيه دون الحال والماضي والتمسك بالحقيقة هو الأصل وتقدير الآية إنا كنا من قبل مجيئه عازيمن على الإسلام به إذا جاء لما كنا نجده في كتبنا من بعثه ووصفه ويرشح هذا أن السياق يرشد إلى أن قصدهم الأخبار بحقية القرآن وأنهم كانوا على قصد الإسلام به إذا جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وليس قصدهم الثناء على أنفسهم في حد ذاتهم بأنهم كانوا بصفة الإسلام أو لا لنبو المقام عنه كما لا يخفى، الثاني أن يقدر في الآية إنا كنا من قبله مسلمين به فوصف الإسلام سببه القرآن لا التوراة والإنجيل ويرشح ذلك ذكر الصلة فيما قبل حيث قال سبحانه: {هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 52] فإنه يدل على أن الصلة مرادة هنا أيضًا إلا أنها حذفت كراهة التكرار.
الثالث أن هذا الوصف منهم بناء على ما هو مذهب الأشعري من أن من كتب الله تعالى أن يموت مؤمنًا فهو يسمى عنده تعالى مؤمنًا ولو كان في حال الكفر وإنما لم نطلق نحن هذا الوصف عليه لعدم علمنا بما عنده تعالى، فهؤلاء لما ختم الله تعالى لهم بالدخول في الإسلام أخبروا عن أنفسهم أنهم كانوا متصفين به قبل لأن العبرة في هذا الوصف بالخاتمة ووصفهم بذلك أولى من وصف الكافر الذي يعلم الله تعالى أنه يموت على الإسلام به لأنهم كانوا على دين حق وهذا معنى دقيق استفدناه في هذه الآية من قواعد علم الكلام. انتهى.
ولا يخفى ضعف هذا الجواب وكذا الجواب الأول وأما الجواب الثاني فهو بمعنى ما ذكرناه في الآية وقد ذكره البيضاوي وغيره وجوز أن يراد بالإسلام الإنقياد أي إنا كنا من قبل نزوله منقادين لأحكام الله تعالى الناطق بها كتابه المنزل إلينا ومنها وجوب الإيمان به فنحن مؤمنون به قبل نزوله.
{أولئك} الموصوفون بما ذكر من النعوت {يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} مرة على إيمانهم بكتابهم ومرة على إيمانهم بالقرآن {بِمَا صَبَرُواْ} أي بصبرهم وثباتهم على الإيمانين أو على الإيمان بالقرآن قبل النزول وبعده أو على أذى من هاجرهم وعاداهم من أهل دينهم ومن المشركين {وَيَدْرَءونَ} أي يدفعونَ {بالحسنة} أي بالطاعة {السيئة} أي المعصية فإن الحسنة تمحو السيئة قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: أتبع السيئة الحسنة تمحها، وقيل: أي يدفعون بالحلم الأذى وقال ابن جبير: بالمعروف المنكر وقال ابن زيد: بالخير الشر وقال ابن سلام: بالعلم اجلهل وبالكظم الغيظ وقال ابن مسعود: بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} أي في سبيل الخير كما يقتضيه مقام المدح.
{وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو} سقط القول وقال مجاهد: الأذى والسب وقال الضحاك: الشرك وقال ابن زيد: ما غيرته اليهود من وصف الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ: {أَعْرَضُواْ عَنْهُ} أي عن اللغو تكرمًا كقوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِرامًا} [الفرقان: 72] {وَقَالُواْ} لهم أي للاغين المفهوم من ذكر اللغو {لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم} متاركة لهم كقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ} [الكافرون: 6] {سلام عَلَيْكُمُ} قالوه توديعًا لهم لا تحية أو هو للمتاركة أيضًا كما في قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَمًا} [الفرقان: 63] وأيًا ما كان فلا دليل في الآية على جواز ابتداء الكافر بالسلام كما زعم الجصاص إذ ليس الغرض من ذلك إلا المتاركة أو التوديع.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكفار «لا تبدءوهم بالسلام وإذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم» نعم روي عن ابن عباس جواز أن يقال للكافر ابتداء السلام عليك على معنى الله تعالى عليك فيكون دعاء عليه وهو ضعيف، وقوله تعالى: {لاَ نَبْتَغِى الجاهلين} بيان للداعي للمتاركة والتوديع أي لا تطلب صحبة الجاهلين ولا نريد مخالطتهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)}.
عطف على جملة {ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم} [القصص: 47] الآية، وما عطف عليها من قوله: {فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى} [القصص: 48].
والتوصيل: مبالغة في الوصل، وهو ضم بعض الشيء إلى بعض يقال: وصل الحبل إذا ضم قطعه بعضها إلى بعض فصار حبلًا.
والقول مراد به القرآن قال تعالى: {إنه لقول فصل} [الطارق: 13] وقال: {إنه لقول رسول كريم} [الحاقة: 40]، فالتعريف للعهد، أي القول المعهود.
وللتوصيل أحوال كثيرة فهو باعتبار ألفاظه وصل بعضه ببعض ولم ينزل جملة واحدة، وباعتبار معانيه وصل أصنافًا من الكلام: وعدًا، ووعيدًا، وترغيبًا، وترهيبًا، وقصصًا ومواعظ وعبرًا، ونصائح يعقب بعضها بعضًا وينتقل من فن إلى فن وفي كل ذلك عون على نشاط الذهن للتذكر والتدبر.
واللام وقد كلاهما للتأكيد ردًا عليه إذ جهلوا حكمة تنجيم نزول القرآن وذُكرت لهم حكمة تنجيمه هنا بما يرجع إلى فائدتهم بقوله: {لعلهم يذَّكَرون=}.
وذكر في آية سورة [الفرقان: 32] حكمة أخرى راجعة إلى فائدة الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنُثبِّت به فؤادك} وفهم من ذلك أنهم لم يتذكروا.
وضمير {لهم} عائد إلى المشركين.
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)}.
لمّا أفهم قوله: {لعلهم يتذكرون} [القصص: 51] أنهم لم يفعلوا ولم يكونوا عند رجاء الراجي عقب ذلك بهذه الجملة المستأنفة استئنافًا بيانيًا لأنها جواب لسؤال من يسأل هل تذكر غيرهم بالقرآن أو استوى الناس في عدم التذكر به.
فأجيب بأن الذين أوتوا الكتاب من قبل نزول القرآن يؤمنون به إيمانًا ثابتًا.
والمراد بالذين أوتوا الكتاب طائفة معهودة من أهل الكتاب شهد الله لهم بأنهم يؤمنون بالقرآن ويتدبرونه وهم بعض النصارى ممن كان بمكة مثل ورقة بن نوفل، وصهيب، وبعض يهود المدينة مثل عبد الله بن سلام ورفاعة بن رفاعة القرظي ممن بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر النبي إلى المدينة فلما هاجر أظهروا إسلامهم.
وقيل: أريد بهم وفد من نصارى الحبشة اثنا عشر رجلًا بعثهم النجاشي لاستعلام أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فجلسوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا به وكان أبو جهل وأصحابه قريبًا منهم يسمعون إلى ما يقولون فلما قاموا من عند النبي صلى الله عليه وسلم تبعهم أبو جهل ومن معه فقال لهم: خيَّبكم الله من ركب وقبحكم من وفد لم تلبثوا أن صدقتموه، فقالوا: سلام عليكم لم نأل أنفسنا رشدًا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم.
وبه ظهر أنهم لما رجعوا أسلم النجاشي وقد أسلم بعض نصارى الحبشة لما وفد إليهم أهل الهجرة إلى الحبشة وقرأوا عليهم القرآن وأفهموهم الدين.
وضمير {من قبله} عائد إلى القول من {ولقد وصلنا لهم القول} [القصص: 51]، وهو القرآن.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في {هم به يؤمنون} لتقوي الخبر.
وضمير الفصل مقيد للقصر الإضافي، أي هم يوقنون بخلاف هؤلاء الذين وصلنا لهم القول.
ومجيء المسند مضارعًا للدلالة على استمرار إيمانهم وتجدده.
وحكاية إيمانهم بالمضي في قوله: {آمنا به} مع أنهم يقولون ذلك عند أول سماعهم القرآن: إما لأن المضي مستعمل في إنشاء الإيمان مثل استعماله في صيغ العقود، وإما لللإشارة إلى أنهم آمنوا به من قبل نزوله، أي آمنوا بأنه سيجيء رسول بكتاب مصدق لما بين يديه، يعني إيمانًا إجماليًا يعقبه إيمان تفصيلي عند سماع آياته.
وينظر إلى هذا المعنى قوله: {إنا كنا من قبله مسلمين} أي مصدقين بمجيء رسول الإسلام.
ويجوز أن يراد ب {مسلمين} موحدين مصدقين بالرسل فإن التوحيد هو الإسلام كما قال إبراهيم {فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [البقرة: 132].
وجملة {إنه الحق من ربنا} في موقع التعليل لجملة {آمنا به}.
وجملة {إنا كنا من قبله مسلمين} بيان لمعنى {آمنا به}.
{أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)}.
التعبير عنهم باسم الإشارة هنا للتنبيه على أنهم أحرياء بما سيذكر بعد اسم الإشارة من أجل الأوصاف التي ذكرت قبل اسم الإشارة مثل ما تقدم في قوله: {أولئك على هدى من ربهم} في سورة [البقرة: 5].
عَدَّ الله لهم سبع خصال من خصال أهل الكمال:
إحداها: أخروية، وهي {يؤتون أجرهم مرتين} أي أنهم يؤتون أجرين على إيمانهم، أي يضاعف لهم الثواب لأجل أنهم آمنوا بكتابهم من قبل ثم آمنوا بالقرآن، فعبر عن مضاعفة الأجر ضعفين بالمرتين تشبيهًا للمضاعفة بتكرير الإيتاء وإنما هو إيتاء واحد.
وفائدة هذا المجاز إظهار العناية حتى كأن المثيب يعطي ثم يكرر عطاءه ففي {يؤتون أجرهم مرتين} تمثيلة.
وفي الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيئه وأدركني فآمن بي واتبعني وصدقني فله أجران، وعبد مملوك أدى حق الله تعالى وحق سيده فله أجران، ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثم أدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران» رواه الشعبي وقال لعطاء الخراساني: خذه بغير شيء فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة.
والثانية: الصبر، والصبر من أعظم خصال البر وأجمعها للمبرات، وأعونها على الزيادة والمراد بالصبر صبرهم على أذى أهل ملتهم أو صبرهم على أذى قريش، وهذا يتحقق في مثل الوفد الحبشي.